لأول مرة في تاريخ البحرين، تعتلي مجموعة من الصم والبكم خشبة المسرح لتقديم مسرحية دينية تاريخية، شارك فيها 23 فرداً من الجنسين، أكبرهم في الثلاثين، وأصغرهم في السادسة، مع عدد من الشباب، بالإضافة إلى فتاتين في سن العاشرة.
«الوسط» التي حرصت على حضور أربع من البروفات التي زاد عددها على 20 بروفة، حضرت أيضاً العرضين نهاية الاسبوع الماضي على خشبة مسرح مدرسة حطين الابتدائية للبنات، وحرصت على الحديث إلى الممثلين أنفسهم لاستكشاف عالمهم الداخلي بمساعدة مترجمي لغة الاشارة، شوقي المعتوق وزمزم الزاكي. في البداية عند حضور المسرحية، تكتشف بسهولة مقدار الجهد الذي بذله الفنان الشاب جابر حسن في إخراج هذا العمل، فهو يتعامل مع فئة محرومة من النطق والسمع، وبالتالي يكون الاعتماد على الاشارة والنظر. حتى المؤثرات الصوتية التي أدخلت على العمل الفني لم تكن مجدية للتواصل مع الممثلين، فكان لابد له من الاستعانة بالضوء للتحكم في هذه المجاميع من الممثلين مختلفي الأدوار والأعمار.
وردتان جميلتان
ومع ذلك، حظيت المسرحية بثناء كبير وإشادة واسعة من قبل الجمهور، وهو ما انعكس ايجابا على نفسية الممثلين والممثلات الصغيرات، إذ أحس هؤلاء بالخروج من عالم العزلة والصمت الأبدي، والمشاركة في أنشطة اجتماعية يمارسها الآخرون بصورة طبيعية، بل والقيام بعمل نوعي مؤثر يلفت نظر الجمهور ويستقطب إعجابه. لفتت الأنظار الفتاتان الصغيرتان زهرة وساجدة، زميلتا الدراسة في مركز شيخان، بالصف الرابع الابتدائي، علماً بأن النص الاصلي للمسرحية لم يكن يتضمن وجوهاً نسائية نظراً إلى الظرف المحافظ الذي تجري فيه المسرحية، وانما أدخل دورهما بعد اسبوعين من بدء البروفات. تقول ساجدة عن مشاركتها: «أنا فرحانة جداً، وأحمد الله» (طبعاً بحسب ملاحظة المترجمة ان: الحمد لله، تعني الكثير لهم). وتضيف: «كنت في التمثيل قوية وصبورة، في بادئ الأمر تفاجأت لأني أشاهد مسرحاً كبيراً لأول مرة في حياتي، ولكن بعد ذلك تأقلمت، وتغلبت على الخجل». وهو ما تشاركها فيه صديقتها زهرة إذ تقول: «في البداية أصبت برهبة ولكن بعد ذلك تأقلمت مع الوضع». وماذا عن معرفتكما بالواقعة التاريخية قبل التمثيل وبعده؟ تجيب ساجدة: من قبل لم أكن أعرف عن شخصية جابر (الصحابي جابر بن عبدالله الانصاري الذي تروي المسرحية قصة زيارته لقبر الحسين في العشرين من صفر 61 هـ) لكن عندما شاهدت البروفات وهو يقوم بالبحث عن قبور الشهداء في كربلاء عرفت قصته. وتعرب ساجدة عن خشيتها من نسيان هذه القصة العام المقبل، لأن القصة جديدة على ذاكرتها، ويجدر الإشارة إلى أن تلقي هذه الفئة للمعلومات يقتصر غالباً على المشاهدة والاشارة، على خلاف الناس الآخرين، إذ يتلقون معارفهم بطرق شتى، من بينها القراءة والسماع. أما صديقتها زهرة فكانت تعرف القصة من قبل بصورة بسيطة، إذ تتصور ان قتل الشهداء في كربلاء كان بسبب الغيرة والحسد. وكيف شعرت نفسياً بعد المشاركة في المسرحية؟ ضحكت ساجدة ثم قالت: كان قلبي يتقطع من الداخل، لأنهم قتلوا الامام الحسين، وان السيدة زينب والأطفال تعرضوا للأسر. أما زهرة فأجابت: كنت اتألم من الداخل، وكان قلبي يتفطر، وزاد حبي للحسين بعد المسرحية.
أعرف «نصف كربلاء»،
الشاب حسين عيسى، 19 عاماً، من قرية المقشع، لم يواصل دراسته لأكثر من الصف الأول الاعدادي لعدم وجود دراسة ثانوية كما يقول، ولم يحصل على فرصة للذهاب إلى الكويت للدراسة لافتقاره إلى الامكانات المادية. ويطمح في الحصول على رخصة سواقة ولكن الوزارة تؤخره كما يقول. هذا الشاب يمارس الرسم، ولديه «نصف معرفة عن كربلاء» كما عبر بلغة الاشارة، وبدأت معرفته بذلك منذ ثلاث سنوات فقط، بعد تنظيم ترجمة المجالس الحسينية في النعيم، ولم يكن والداه أو اخوته يعرفون لغة الاشارة. وحالياً لا يعمل على رغم توافر مهارات استخدام الكمبيوتر والطباعة لديه. في المسرحية لعب دور الصحابي جابر الأنصاري وأجاد في أدائه، سألته عن شعوره وهو يمثل في المسرحية فأجاب: مستانس من التمثيل، ومن مواكب العزاء ومن المأتم. وهل كنت تعرف عن الرجل الذي مثلت دوره (جابر)؟ أول ما عرفت عنه في المأتم ولكن لا أعرف التفاصيل. والآن عندما مثلت دوره واندمجت فيه اتضحت لي بعض التفاصيل عنه. وكنت أفكر لو كنت مكان جابر في ذلك الزمان ماذا كان سيحصل لي. والفكرة التي فهمتها انه كان ضريراً ولكن قلبه مملوء بحب أهل البيت. وكان صديقاً حميماً للامام الحسين. (وللتوضيح تاريخياً جابر (رض) من كبار صحابة الرسول (ص)، وشاهد الحسين طفلاً في حياة جده، وكان يحبه كثيراً ويسجل التاريخ انه أول من زار قبره في كربلاء في اليوم الأربعين من مقتله وهناك التقى بأسرته العائدة من رحلة السبي في الشام كما ترويها كتب التاريخ).
الأب والابن يمثلان
أكبر الممثلين سناً عيسى خليل، 32 عاماً، من منطقة عالي، ويعمل حرفياً في ورشة نجارة. لعب دور الامام السجاد، وهو كزملائه الآخرين، يمثل لأول مرة في حياته. وهو يعرف قصة كربلاء كاملة، فقد كانت لديه كتيبات مصورة تحكي الواقعة التاريخية. وقد أحب التمثيل وأحس بالراحة لقيامه بالدور، وشاركه ابنه الحركي جداً عدنان، وهو يعاني من المشكلة نفسها. حضرت معه زوجته التي كانت تصطحب معها ابنتها الطبيعية في الرابعة، وتحمل طفلة أخرى رضيعة.
فئة مرحة خجولة
في نهاية العرض الثاني والاخير من المسرحية، تحدث مؤلف ومخرج مسرحية «قبرك قلبي»، جابر حسن عن انطباعات عن هذه الفئة من المجتمع بحكم تعامله اليومي معهم على مدى ثلاثة أسابيع، فقال: تتميز هذه الفئة بأنها مرحة بطبيعتها، وهم يحبون المزاح، ويعانون من الخجل، هذا العمل كسر الحاجز لديهم، وكلمات التشجيع كانت تحفزهم على العمل والإجادة. وبالمناسبة، المسرحية كانت اقتراحاً من أحدهم، بعد مشاهدته ترجمة أحد المجالس الحسينية، فتقدم للجنة الصم والبكم باقتراح للتمثيل، وهكذا تمت الاستجابة لرغبتهم. وهم مصرون على ألا تكون هذه المسرحية الأخيرة. وعن أصعب ما لقيه في هذا العمل قال: أصعب شيء هو ضبط حركة الممثلين مع الصوت المسجل والمؤثرات الصوتية، فأحياناً يتحرك الممثل ويستبق الصوت، وأحياناً يتأخر عن الصوت في حركته، وهو ما حاولنا معالجته بالتحكم في حركة الضوء. إضافة إلى ذلك صعوبة الحفظ وعدم اجادة الكثير منهم للقراءة العادية، فأنت مع الممثلين الآخرين تسلمهم النص لحفظه، أما هذه الفئة فيعاني أغلبها من صعوبة في القراءة.
**لقطات على هامش المسرحية
أحد الممثلين الشباب الذين قاموا بدور رئيسي في المسرحية وحاولنا الالتقاء به في نهاية العرض، غادر القاعة مبكراً، وعندما سألنا عنه قيل إنه خاطب، وذهب إلى خطيبته، بعد أن حرم من لقائها لمدة ثلاثة أسابيع بسبب البروفات. * الشخص الوحيد الناطق الذي شارك في التمثيل هو المترجم شوقي المعتوق، الذي أبدع في دور الشمر قاتل الحسين، وكان له دور كبير في ضبط إيقاع حركة الممثلين على خشبة المسرح. كما ان له دوراً كبيراً في إخراج هذه الفئة من عزلتها من خلال تطوعه في ترجمة المجالس الحسينية في السنوات الأخيرة، مع انه لم يتلق لغة الإشارة عن طريق الدراسة وانما من خلال صداقته لعدد من الصم. * تجاوز عدد البروفات 20 بروفة، آخرها 3 في الليلة الأخيرة قبل العرض الأول، وكان جميع الممثلين يحرصون على الحضور والالتزام بالمواعيد، فالمعروف عن هذه الفئة حب النظام والترتيب. * يعتبر هذا العمل أول عمل مسرحي ديني تاريخي في منطقة الخليج، فما عرض في الكويت، صاحبة قصب السبق في الرعاية بهذه الفئة، مجرد «اسكتشات» تمثيلية فكاهية، أما في السعودية فاقتصر على تقديم أعمال مشابهة ولكنها مقتصرة على الكوادر النسائية. * هذه الفئة تعيش في إطار صداقات تجمع أفرادها، وتتواصل معاً عن طريق المسجات، وبعضهم لديه مهارات فنية كبيرة، تحتاج إلى رعاية لتأخذ فرصتها في الحياة. كما يحرص بعضهم على التواصل مع أصدقائهم الخليجيين الذين درسوا معهم في الكويت مثلاً، ولوحظ حضور عدد من الصم والبكم من السعودية لمشاهدة المسرحية.
|