بسم الله الرحمن الرحيم
«إنا لله وإنا إليه راجعون»
«ومن الناسِ مَن يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه والله رؤوف بِالْعباد» (البقرة: 207)
«إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء».
في زمن أحوج ما نكونُ فيه إليه...
رحل هذا الكبير زارعاً في قلوب المحبين أحزاناً جمعت كلَّ أحزانِ التاريخ...
رحل الأب القائد الفقيه المرجع المجدد المرشد والإنسان...
رحل والصلاةُ بين شفتيْه وذكر الله على لسانه وهمومُ الأمة في قلبه...
وأخيراً توقف نبضُ هذا القلب على خمسةٍ وسبعين من الأعوام... قَضَاها جهاداً واجتهاداً وتجديداً وانفتاحاً والتزاماً بقضايا الأمة ومواجهةً لكل قوى الاستكبار والطغيان...
رحل السيد وهمُّه الكبير، هو الإسلامُ فكراً وحركة ومنهجاً والتزاماً في جميع مجالات الحياة مردداً على الدوام: هذه هي كلُّ أُمنياتي، وليس عندي أُمنياتٌ شخصية أو ذاتية، ولكنَّ أمنيتي الوحيدة التي عشتُ لها وعملتُ لأجلها هي أن أكونَ خادماً لله ولرسوله (ص) ولأهل بيته (ع) وللإسلام والمسلمين...
لقد كانت وصيته الأساس حفظ الإسلام وحفظ الأمة ووحدتَها، فآمن بأن الاستكبار لن تنكسر شوكته إلا بوحدة المسلمين وتكاتفهم.
وبعقله النير وروحه المشرقة كان أباً ومَرجعاً ومرشداً وناصحاً لكل الحركات الإسلامية الواعية في العالم العربي والإسلامي التي استهْدت في حركتها خطه وفكرَه ومنهجَ عمله...
وانطلاقاً من أصالته الإسلامية شكَّل مدرسة في الحوار مع الآخر على قاعدة أن الحقيقةَ بنتُ الحوار فانفتَحَ على الإنسان كله، وجسَّد الحوارَ بحركته وسيرته وفكره بعيداً عن الشعارات الخالية من أي مضمونٍ واقعي.
ولأنه عاشَ الإسلامَ وعياً في خط المسئولية وحركةً في خط العدل، كان العقلَ الذي أطلق المقاومةَ، فاستمدت من فكرهِ روحَ المواجهة والتصدي والممانعة وسارت في خط الإنجازات والانتصارات الكبرى في لبنان وفلسطين وكل بلد فيه للجهاد موقع...
على الدوام، كانت قضايا العرب والمسلمين الكبرى من أولويات اهتماماته... وشكلت فلسطينُ الهمَّ الأكبرَ لحركتِهِ منذ رَيعان شبابِه وحتى الرمقِ الأخيرِ قائلاً: «لن أرتاح إلا عندما يَسقط الكِيانُ الصهيوني».
لقد شكل السيد علامة فارقة في حركة المرجعية الدينية التي التصقتْ بجمهور الأمة في آلامها وآمالها... ورسمت لهذا الجمهور خط الوعي في مواجهة التخلف، وحملت معه مسئولية بناء المستقبل... وتصدت للغلو والخرافة والتكفير مستهدية سيرةَ رسول الله (ص) وأهل بيته الأطهار (ع).
لقد وقف السيد بكلِّ ورع وتقوى في مواجهة الفتن بين المسلمين رافضاً أن يتآكل وجودُهم بِفعل العصبيات المذهبية الضيقة، طالباً من علماء الأمة الواعين من أفرادها أن يتقوا الله في دماء الناس، معتبراً أن كل من يثير فتنة بين المسلمين ليمزِّق وحدتَهم ويفرِّق كلمتَهم هو خائنٌ لله ولرسوله وإنْ صامَ وصلى...
حرص على الدوام أن تكون العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في لبنان والعالم قائمة على الكلمة السواء والتفاهم حول القضايا المشتركة، وتطوير العلاقات بينهم انطلاقاً من المفاهيم الأخلاقية والإنسانية التي تساهم في رفع مستوى الإنسان على الصُّعُد كافة، وارتكازاً إلى قيمة العدل في مواجهة الظلم كله.
وأمّا منهجيته الحركية والرسالية وحركته الفقهية والعقائدية، فإنه انطلق فيها من القرآن الكريم كأساس... وقد فَهم القرآن الكريم على أنه كتابُ الحياة الذي لا يَفهمُه إلا الحركيون...
امتاز بتواضعه وإنسانيته وخلقه الرسالي الرفيع وقد اتسع قلبُه للمحبِّين وغير المحبِّين مخاطباً الجميع: «أحبوا بعضكم بعضاً، إن المحبة هي التي تُبدع وتُؤصّل وتنتج... تَعَالوْا إلى المحبّة بعيداً عن الشخصانية والمناطقية والحزبية والطائفية... تعالوا كي نلتقي على الله بدلاً من أن نختلف باسم الله»... وهو بهذا أفرغ قلبَه من كل حقد وغِلٍّ على أي من الناس، مردّداً أن «الحياةَ لا تتحمل الحقدَ فالحقدُ موتٌ والمحبة حياة»...
ولقناعته بالعمل المؤسسي آمن بأن وجود المؤسسات هو المدماك الحضاري الأساسي لنهضة كلِّ أمة ومجتمع... أقام صروحاً ومنارات للعلم والرعاية، فكانت ملاذاً لليتيم وللمحتاج ووجد فيها المعوقُ داراً للطموحات والآمال الكبار، ووجد المتعلم فيها طريقاً نحو الآفاق المفتوحة على المدى الأوسع، وهكذا المريض والمسن وَجَدا فيها أيضاً واحةً للأمان والصحة...
لقد كانت دارُكَ أيها السيد السيد وستبقى مقصداً لكلِّ رواد الفكر وطالبي الحاجات، فلطالما لهج لسانُك بحب الناس.
كان الفقراء والمستضعفون الأقربَ إلى قلبك، ولقد وجدتَ في الشباب أَمَلاً واعداً إذا ما تحصنوا بسلاحِ الثقافة والفكر...
لقد سكن هذا القلبُ الذي ملأ الدنيا إسلاماً حركياً ووعياً رسالياً وإنسانية فاضت حباً وخيراً حتى النفس الأخير...
يا سيدنا، لقد ارتاح هذا الجسدُ وهو يتطلع إلى تحقيقِ الكثير من الآمال والطموحات على مستوى بناء حاضر الأمة ومستقبلها...
رحلتَ عنا، وقد تكسرت عند قدميْك كلُّ المؤامرات والتهديدات وحملاتِ التشويهِ ومحاولاتِ الاغتيال المادي والمعنوي، وبقيت صافي العقل والقلب والروح صفاء عين الشمس...
يا أبا علي، رحلت وسيبقى اسمُك محفوراً في وجدان الأمة، وستبقى حاضراً في فكرك ونهجك في حياة أجيالنا حاضراً ومستقبلاً...
رحل السيّدُ الجسد، وسيبقى السيّدُ الروحَ والفِكرَ والخط... وستكمل الأمة التي أحبها وأتعبَ نفسه لأجلها، مسيرة الوعي التي خطها مشروعاً بعَرَقِ سنيّ حياته...
أيها الإخوة... إننا إذ نعزّي الأمة كلها برحيل هذا العلم المرجعي الكبير، وهذه القامةِ العلمية والفكرية والرسالية الرائدة، نعاهدُ اللهَ، ونعاهدُك يا سماحة السيد، أن نستكمل مَسيرة الوَعْي والتجديد التي أَرْسَيْتَ أصولَها وقواعدَها، وأن نحفظ وصيتك الغالية في العمل على حياطةِ الإسلام، ووحدةِ الأمةِ، وإنسانية الرسالة.
«يا أَيتهَا النَّفسُ الْمُطمَئِنة * ارْجعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي» (الفجر: 27 - 30)
|