موجز عن الجزء الثاني من ندوة الاستاذ كريم المحروس تحت عنوان
" قراءة في تطور العلوم والثقافة الاسلامية"
شمل الجزء الثاني من ندوة الاستاذ كريم المحروس التي عقدت في مركز النعيم الثقافي
في 11 اغسطس 2004م ثلاثة اقسام اساسية من البحث . ناقش في القسم الاول اسباب النهضة وظهور رواد الاصلاح والتجديد بين علماء الدين في المراكز والحوزات الدينية . بينما ناقش في القسم الثاني مفهوم الاصلاح في اللغة وفي النصوص الدينية . وفي القسم الثالث فصل في نتائج البحث وما يجب ان تكون عليه المراكز والمؤسسات الدينية والثقافية.
-----------------
برغم جمود حوزة النجف على الوسائل التعليمية والمناهج القديمة، لكنها ليست كمثل الأزهر في جمود وسائله ومناهجه. وإذا أخذنا بعين الاعتبار استقرار الأزهر قرونا بعد دولة صلاح الدين الأيوبي، وعدم استقرار حوزة النجف لشدة الحملات الطائفية التي شنتها السلطنة العثمانية ضده وضد الطائفة الشيعية عموما، فإن النتائج يفترض بها أن تستوجب تطور الأزهر الى جانب تخلف وجمود النجف. إلا أن النتائج ظهرت على غير هذا القياس. فحوزة النجف كانت أكثر تميزا وقدرة على الاستقلال بكيانها برغم عزلتها خلال ستة قرون من سلطنة العثمانيين، وأكثر وعيا لما يدور من حرب وصراع بين الحضارة الوافدة والواقع الإسلامي المتخلف.
ولو قرأنا الجمود والتخلف في الأزهر في وصف الشيخ حسن الجبرتي (1754-1825م) في كتابه( عجائب الآثار في التراجم والأخبار)، لوجدنا العجائب. فقد ورد في هذا الكتاب أن كبار علماء الأزهر كانوا يعجبون ويندهشون من رؤيتهم لعربة نقل خشبية صنعها الفرنسيون خلال حملة نابليون على مصر، وتناقلوا صورها كـ"معجزة تاريخية" حدثت في مصر. يضاف إلى ذلك:أن الأزهر الشريف كان يعاني من هيمنة بعض رجال الدين الاستغلاليين حتى مجيء محمد علي باشا حاكما سنة 1805م لمصر، واعتماده لمشروع الاستغلال الزراعي، فجمع " الفائض" الذي يصل إلى ثلث الإنتاج الزراعي، تحت مسمى " الأوقاف"، وكانت أمواله تذهب هدرا في جيوب علماء الدين الكبار المهيمنين على إدارة الأزهر وتصريف شؤونه. بينما ظل النجف مستقلا في حوزته عن الدولة محافظا على نزاهته وشدة زهده. فلم يعرف ذلك التخلف الكبير الذي عانى منه الأزهريون، كما لم يعان النجف أيضا من ظاهرة سرقة الأموال الشرعية وحقوق العامة.
النهضة وظهور رواد الإصلاح والتجديد
اختلف الكثير من المؤرخين والمثقفين المتابعين في أسباب النهضة ودوافع ظهور رواد الإصلاح والتجديد من علماء الدين والمثقفين الدينين.
فقائل: أن الظروف المتخلفة والجمود الديني والثقافي جعلت من ابن خلدون ( القرن الرابع عشر الميلادي) يزدري المسلمين من العرب على وجه الخصوص " ولاسيما انه عاش في ظل الاسر البربرية المجاهرة بعدائها للعرب الذين خربوا أفريقيا الشماليــة في القرن الخامس ". فكانت رؤيته للمجتمع منطلقة على أساس قومي أو عنصري، ووجد أن الخلل يكمن في فئة خاصة من المسلمين وفي الحشو الفكري الذي ساد بلاد المسلمين وأدى إلى غلبة النصوص الدينية غير السليمة الصدور على سلوك المسلمين وحياتهم اليومية وتميز طائفة العرب على العجم في شؤون الثقافة والحكم!.
والمشهور عن ابن خلدون انه كان احد خريجي المراكز الدينية في بلده والأزهر بتفوق، إلا أن مؤلفاته لم تأخذ أثرها الكبير في علاج ضعف المسلمين ولم تصنع نهضة بينهم لأسباب مختلفة ، من بينها : غياب الوعي العام عن إدراك نظرياته في عهده ، سواء في مصر والأزهر أو في المغرب العربي ، فضلا عن العجز الكبير بينهم بحكم الجهل وفكر الجبر والفقر ، ولضعفهم السياسي .
وتؤكد بعض المصادر التاريخية أن ابن خلدون لم يحض بشرف الإصلاح في الأزهر وفي مجتمعه، لكونه اخذ بالعصبية، فنفرت منه العرب في مصر والاثنا عشرية في بقية بلاد العالم الإسلامي وبقية أتباع المذاهب الأربعة من العرب، وأبعدتهم عنه وعن نظرياته برغم تميز مقدمته في شأن التمدن والتطور الحضاري.
ومع قصور المذهب التاريخي الذي تبناه ابن خلدون والمغالطات الكثيرة التي وردت في مقدمته وعدد من مؤلفاته الأخرى وجعلته محورا لأحقاد الآخرين وحنقهم عليه، فما كان ابن خلدون شخصا محبوبا أو مرغوبا لدى المصريين ومصر التي جاء إليها فارا من بلاده بحجة السفر للحـج في سنة 1382م حتى " أراد الشعب القاهري أن يتخلص من المغربي الأجنبي ( ابن خلدون، فاستقال المؤرخ من منصبه وتفرغ إلى الدرس ثانية ".
فقد وصف العرب بأنهم أكثر الناس احتقارا للنصوص الدينية الأصيلة وللعلوم والفنون، وأنهم أبعد الأمم عن سياسة الملك لبداوتهم وعصبيتهم وعدم مقدرتهم على التغلب على البسائط، وأنهم إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب .كل ذلك جعله في عصبة "المتطفلين" على المصادر الدينية، فعرف عنه مرارا بأنه " داعية" لإصلاح ما فسد بين المسلمين من مذاهب وشنع على الشيعة مذهبهم في بلد نشأ وتطور سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا على عهد الدولة الفاطمية التي أسست الأزهر وجعلت منه كعبة للعلم على المذاهب الخمسة !.
فلم تكن النهضة آنذاك بحاجة إلى نظرية اجتماعية تظهر مواضع النقص بين الأمة الإسلامية بقدر ما كانت بأمس حاجة إلى شخصيات قيادية إصلاحية رائدة توحدها وتقودها إلى حيث البناء الداخلي المتين. ولا ننسى إن القرآن كان حاضرا بين المسلمين، وكانت السنة متداولة بينهم فلم تزدهم وعيا أو ثقافة أو مسؤولية الإنقاذ، لأنهم هجروها وجعلوها خلف الظهور.
وهناك قائل: أن أسباب النهضة ودوافع رواد الإصلاح والتجديد بين علماء الدين والمثقفين الدينين، قد كمنت خلف أثر قرار السلطان العثماني باعتماد حركة التنظيمات العثمانية التي شاءت تطوير نظام السلطنة السياسي والاقتصادي .
فقد كانت السلطنة على اشد فقهرها ، وكانت تعاني من حجم ديونها المستحقة الى اوروبا وشيوع ظاهرة الحركات الانفصالية القومية وغيرها ، في وقت كانت اوروبا تعيش نتائج النهضة العلمية والثقافية والنمو على الصعيد الاقتصادي والسياسي وتوسع نفوذها الى خارج القارة الاوروبية.
وقد بدأت حركة الاصلاح الاداري الى جانب عصبيتها وطائفيتها ، فمنعت شيوع فكرة الاصلاح ونهضة الامة على غير مشروع حركة التنظيمات . بينما كانت ولايتها في مصر تعيش نهضة محمد علي باشا التي شهد لها نهضتها بعد الأثر الكبير الذي تركه الفرنسيون في حملتهم على مصر وكذلك اثر الثورة التي قادها الأزهر ضد الفرنسيين.
لقد انتخب محمد علي باشا من قبل علماء الأزهر حاكما على مصر بعد الثورة وطرد الفرنسيين. وهذه المرحلة المهمة والحساسة من حياة ولاية مصر، شهدت فيها مصر نهضة علمية وثقافية كبيرة، لكن محمد علي باشا أتى على الكثير من علماء الأزهر وسجنهم ونفى بعضهم كما حدث للشيخ عمر مكرم، وذلك لما كانوا يتصفون به من إصرار على جني مكاسب الثورة لصالحهم جيبوهم الخاصة.فقرب محمد علي باشا من توسم فيه حسا وطنيا كبيرا كالشيخ حسن العطار (1766-1825) الذي اعتزل الأزهر لما كان يتميز به الشيخ من رؤية حضارية حافظت على الدين والتمسك بثقافته ولكنها أخذت التطور العلمي الوافد من الغرب كعطاء إنساني متميز. وتبع الشيخ العطار تلميذه رائد الإصلاح الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي حضي بتشجيع خاص من قبل الشيخ حسن العطار للالتحاق بالبعثات العلمية إلى أوفدها محمد علي باشا إلى أوروبا وأيدها ودعمها.
كان محمد علي باشا حريصا على المحافظة على دين وثقافة أفراد البعثات إلى أوروبا، فأرسل
على رأس كل بعثة رجل دين يوجههم ويقيم إليهم عبادتهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. وكان الشيخ رفاعة واحدا من أولئك العلماء الذين تفاعلوا مع نهضة أوروبا واضطلع عن قرب على أحوالها وتطور ثقافتها ونموها الاقتصادي والعسكري.
لقد استقل محمد علي باشا عن الأزهر في مشروعه التعليمي والثقافي لكنه اختار منه أفضل علمائه وجندهم في مسيرته العلمية الثقافية. فكان في ظن علماء الأزهر أن محمد علي قد استقل برأيه واستبد به وتجاوز مكانة الأزهر، كما ظن الكثير من المحافظين في الأزهر من علمائه أن محمد علي عزم على بناء دولة خارجة على الإسلام ومتحالفة مع الغرب على حساب علاقة مصر مع السلطنة. لكن محمد علي باشا انشأ التعليم والثقافة على دينه، وقدم كل دعمه وولائه للسلطان العثماني، فتجاوز محمد على باشا بذلك تخلف مركز السلطنة العثمانية، وتغلب على كل محنه وآثارها السلبية والمتزمتة التي صنعها علماء الأزهر ممن خسر حضوة السلطة وبريق نفوذها ومالها خلال الوجود الفرنسي.
مفهوم الاصلاح
ان مفهوم الإصلاح في نظر الإسلام يختلف عن مفهوم الإصلاح في علم الاجتماع السياسي الغربي الذي يرجع إلى عهود الكنيسة وما رافقها من صراع مرير انتهى إلى الانقلاب على السلطة الدينية الروحية وتسليم زمامها إلى السلطة الزمنية المتمثلة في الملوك حتى عهد النهضة الذي شهد انقلابا أيضا على الملوك وتسليم السلطة إلى مجالس تشريعية منتخبة في إطار نصوص الدساتير المكتوبة.
وقد التزم مفهوم الإصلاح عند رواد الإصلاح الإسلاميين بالتجديد والتطوير وفق نصوص الشريعة الغراء، للوصول بالأمة إلى التمسك بدينها السليم الخالي من المفاهيم الخاطئة من جهة، ومن جهة أخرى للانفتاح على العطاء الحضاري للإنسان والأخذ منه بما وافق التراث الديني ونصوصه.
وتظهر بعض التعريفات في اللغة للإصلاح بأنه : ليس إحلال شيء بديل مناقض عن آخر قديم كله فساد . فالإمام ابن منظور يرى الإصلاح في "لسان العرب" بأنه: نقيض الفساد...وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه. لكن ابن منظور في جهة أخرى يرى:أن إصلاح الدابة هو الإحسان إليها ، فصلحت.
وفي تعريفات المعجم الوسيط يعني الإصلاح بـ: زال عنه الفساد.
وأصلح بينهما، او ذات بينهما، او ما بينهما ، في القرآن الكريم، تعني : أزال ما بينهما من فساد. كما في قوله:
{وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}الحجرات9.
بينما الإصلاح من خلال تجارب رواد الإصلاح قد اظهر هذا المعنى اللغوي بحقيقته، وهناك نماذج في ذلك، منها:
1- تجربة ابن إدريس الحلي الذي بدد قرنا من الجمود في النجف نشأ بعد وفاة الشيخ الطوسي. وأسس لحوزة الحلة التي تميزت بكثرة التأليف والتصنيف والتبويب في كتب الفقه كما في كتاب " شرائع الإسلام " الذي حل بديلا عن كتاب " النهاية" الذي ألّفه الشيخ الطوسي قبل " المبسوط ، وعلى غير العادة التي درج عليها علماء الدين في الحوزة منذ عهد الشيخ المفيد وتميزت بإيجاز العبارة في المؤلفات وشدة تعقيدها وحاجتها إلى مؤلفها وكاتبها في الوصول إلى المعاني المرادة . وارجع الشيخ ابن إدريس الحلي أسباب الجمود بعد وفاة الشيخ الطوسي إلى "غلبة الغباوة" والتقليد الجامد على الطوسي ومؤلفاته بالرغم من الإبداع المتميز الكبير الذي ظهر عليه الشيخ الطوسي في عهده.
2- وهناك تجربة السيد جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده، اللذان أقاما نهضة ثقافية علمية رائعة عمت كل من الأزهر والنجف معا وشملت كل بلاد المسلمين .
فالسيد جمال الدين الافغاني كان رائد التجديد والتنوير والاصلاح في العصر الحديث، وله فضل وايادي كبيرة وكثيرة على ما ننعمه به اليوم من نعمة الوعي ومحاولات الدفاع عن استقلال الثقافة . وذلك من خلال منهج التوفيق الذي اعتمده وزاوج فيه بين الحداثة والاصالة بعدالة بعد أن كان التعصب الديني زعيما على السلطة السياسية والسلطات التعليمية والثقافية في المراكز والمؤسسات الدينية في كل من الأزهر والنجف، وكان الخوف والتوجس حاكما على كبار القوم من كل جديد وافد عن الغرب فضرب في المراكز الدينية والحوزة أعلى مراتب العزلة والهاجس في تلك المرحلة الخطيرة، وساد كل قديم من العلوم الدينية ووسائلها حفاظا عليه من منافسات مدارس التبشير.
لقد كان منهج التوفيق الذي تبناه السيد الأفغاني بوعي وشدة مراس في العلم والثقافة قد حسم الأمر وأوضح الرؤية بين المسلمين. وكسب هذا المنهج بعضا من علماء الدين إلى جانب الأفغاني ممن درس تاريخ علم الكلام واضطلع على الفلسفة، لأن منهج التوفيق كان في مرحلة تاريخية حليفا عند علماء الكلام والفلسفة، كالكندي والفارابي وملا صدرا. وكان ابن رشد احد الرواد الذين اتبعوا هذا المنهج بعد أن نشب نزاع بين العقليين والتقليدين المحافظين اثر اتساع حركة الترجمة عن الفلسفة والعلوم عموما.
بينما واستمر محمد عبده على منهج الأفغاني في الإصلاح، وذلك بالرجوع إلى الدين الإسلامي وتنقيته مما لحق به أفكار جامدة ومتخلفة وأساليب تعليمية تعتمد التمسك بقشور النص وشكلياته اعتاد الأزهر آنذاك على اعتمادها في مناهجه كما اعتاد الكثير من خريجيه على التمسك بما جمد عليه الأزهر وتخلف.
وفي العراق أيضا برز السيد هبة الدين الشهرستاني كمثال للتوفيق بين الاصالة والحداثة بعد أن تأثر بالسيد الأفغاني ونهضة المؤلفات والمطبوعات التي كانت ترد بغداد من مصر. وفي مقابل الأفغاني نشأ جميل الزهاوي على الحداثة وحارب الاصالة واعتبرها ضربا من التخلف. فقل أنصار النهضة على منهج الشهرستاني وساد الكثير من أنصار الزهاوي الذي نزع عمامته وجمع حوله من المثقفين المناهضين للفكر الإسلامي ما أسعفه نشر ثقافة الغرب.
لقد ظلم الأفغاني في حياته حينما حاربه الاستعمار وطاردته الأنظمة السياسية المتخلفة وظن فيه الكثير من علماء الدين في الأزهر والنجف ظن السوء فباعدوه وناهضوه فلم يضعوا له وزنا وشاركوا أنصار حركة التغريب في التشنيع عليه واتهامه بمناصرته للمحفل الماسوني بدون أدنى تحقق في الأمر.
فقد ضحى الأفغاني بسمعته في سبيل إنقاذ مصر من الماسونية لأنها كانت السائدة آنذاك تضم إلى محافلها أفضل رجالات مصر ورموزها العلمية والثقافية والسياسية، وكانت للأفغاني رغبة عارمة في كسب مثل هذه الشخصيات إلى مشروع النهضة إلى جانبه وذلك بعزلهم عن الماسونية وفق خطة مدروسة ومنظمة، فلم ينل منهم أو يسقطهم أو يشوه سمعتهم كما هو الحال عندنا في البحرين وفي رؤيتنا الحادة إلى شخصياتنا الثقافية التي تسير على غير هدى حزبياتنا وجمعياتنا ومؤسساتنا السياسية والثقافية والاجتماعية فنعبر عن ضعفنا في كسبهم بالصاق اسوء التهم والصفات فيهم ونسقطهم من مراتبهم ، فاضطر الافغاني للدخول في المحفل وكسب عضويته ضمن إطار منهج تفكيك للمحفل في مصر.إلى أن تمكن من الاحاطة التامة بأهدافه ومقاصده ورجاله ومنهجه فانقلب عليه واخرج من عضويته أكثر من 200 شخصية مصرية كان من بينهم: سعد زغلول واحمد عرابي. فهذه الخطة والمنهج الأفغاني دليل واضح على مدى وعي الافغاني وقدرته الفائقة على علاج قضايا مجتمعه وفنه في الكسب وتحاشيه مبدأ المواجهة مع من يتوسم فيه التحول في لحظة تاريخية حرجة.
لقد نشأت حياة الأفغاني العلمية والثقافية على يد الشيخ الأنصاري في النجف الاشرف، وذلك للميزات العقلية والنفسية التي تميز بها السيد الأفغاني " فاعتنى الأنصاري بجمال الدين... وبقي جمال الدين في النجف أربع سنوات درس في السنتين الأوليتين فيها العلوم العالية من التفسير والحديث والفقه والأصول والكلام والمنطق والحكمة الإلهية والرياضيات والطبيعيات ومقدمات الطب والتشريع والهيئة والنجوم وغيره...إن الشيخ مرتضى كان يوليه لطفا وعطفا وحبا، ويبشر به في رسائله إليه بحسن مستقبله، فحسده على ذلك بعض الطلاب من زملائه واضمر له السوء، فأطلع الأنصاري على ذلك، فأرسل جمال الدين إلى الهند مع بعض خواصه المسمى (ألبير)".
وعانى الأفغاني من محاربيه ومناوئية فسموه في مصر في بعض كتبهم بـ " كلب العجم" بعدما تأكد لهم انتمائه للطائفة الشيعية. و طمست شخصية السيد الأفغاني من قبل الشيعة أيضا وخصوصا من قبل مناوئيه من العلماء المتزمتين والحاسدين في النجف، وتبناه أتباع المذاهب الأخرى في عصرنا الراهن ومجدوه وأكدوا على مذهبيته إلى جانب المذاهب الأربعة، مثلما كتب عنه د. محمد عمارة في مؤلفه" الأعمال الكاملة للسيد الأفغاني" ،وحاربه رجال التغريب والقوميون والشيوعيون أيضا .
وكان من جمال صفاته وعمق وعيه وإدراكه لمسؤولية التغير والتجديد والإصلاح، انه كان يبدى اهتماما كبيرا وملحوظا بالصحافة والكتابة إليها، وكان يحرض مريديه وأتباعه على الكتابة ويعلمهم الطرق الحديثة والمؤثرة . فلم يكن مدرسا للعلوم الدينية والثقافة والسياسة أو عالما روحيا يتنقل بين الناس ليعالج شؤونهم ومشاكلهم الاجتماعية فحسب، إنما كان يجعل من الكتاب حركة دائمة متفاعلة مع حركة المجتمع وحاجاته. فحينما ظهر " الطبيعيون ومنكروا الدين والإله " ألف كتابه المشهور " الرد على الدهريين " الذي اثبت فيه عمق إطلاعه على الفلسفات الأخرى غير الإسلامية، وعلى نتاج الحضارات الأخرى أيضا، وكذلك احاطته التامة بالشعارات والفكر الذي كان يجول بين أدمغة الطبيعيين.كما ألف كتابا حول أفغانستان وحركتها الاحتجاجية، وغطى الكثير من الإحداث بقلمه من خلال بيانات أصدرها وصحيفة "العروة الوثقى" التي اضطر في سبيل إصدارها إلى الإقامة في فرنسا .
وكانت مجالسه التي يعقدها تُنقل وتُكتب في الصحافة عبر أقلام أصحابه المثقفين المتواجدين دائما في اغلب مجالسه. وكان يعقد جلساته في مقهى عام يقال له ( قهوة متاتيا) كان يقصده كل يوم عند الغروب، ويظل يحاور في الإحداث السياسية وغيرها، ويوجه مريديه بما يقدمه من تحليل وتعليق حتى آخر الليل ، حيث يتكئ على عصا متجها إليها ( المقهى) ، ذلك بعد أن يفرغ من مطالعاته للكتب ، والصحافة التي كان يكن لها كل اهتمام . كما كان يعقد بعض جلساته في بيته، ويبدو أن جلساته في البيت هي لخاصته من أصدقائه ومريديه، أو هي لعقد الدروس العلمية في مجالات مختلفة، من بينها الفقه والفلسفة. وقد وصفت مجالسه من حيث شكلها وحاضريها بأن الفئة التي تحيط به في المجالس فيها اللغوي والشاعر والمنطقي والطبيب والكيماوي والتاريخي والجغرافي والمهندس والطبيعي، وأنهم كانوا يتسابقون على إلقاء أدق المسائل عليه وبسط اعوص الأحاجي عليه، فيحل إشكالها فردا فردا ويفتح أغلاف طلاسمها ورموزها، واحدا واحدا بلسان عربي لا يتلعثم ولا يتردد...
نتائج القراءة
ان رواد الاصلاح الثقافي والعلمي اهتموا بنشر الوعي واعملوا الفكر ، وانطلقوا في مسيرة الاصلاح على اسس نصوص دينية خالصة عرفوا دلالتها واضطلعوا على مقاصدها الى جانب اضطلاعهم ومعرفتهم الواسعة عن محيطهم وحاجاته على صعيد الخطة والمنهج والوسيلة .
وقد أدركوا أن غياب هذا الوعي، لن يؤهل الأمة الإسلامية للخروج على جمودها وتخلفها. من هنا كانت مسؤولية بناء الجيل الجديد على أسس فكرية رصينة إلى جانب بناء فئة زعامة على سلم الاولويات. واختار بعضهم في أداء رسالته النهضوية التركيز على النخب المثقفة، سواء في المراكز التعليمية الدينية أو في مؤسسات المجتمع المختلفة. فزرع في أوساطها مهمة إعمال العقل والاجتهاد والنقد ونبذ التقليد الجامد غير القائم على ضوابط علمية مسددة.
ولو بدأ بعض رواد الإصلاح والتجديد مثلا مشروعه الإصلاحي في المراكز الثقافية التعليمية الدينية مباشرة، لصرف جل جهده في مواجهة المناوئين لحركته الإصلاحية. وهذا يعني بالنسبة له خروجا على الأهداف التي رسمها لمشروعه الإصلاحي. فبمقدار ما كانت المراكز التعليمية تحمل رسالة عظيمة، ولها مكانتها العظيمة أيضا؛ كان في تصور بعض الإصلاحيين أن رد فعل التقليدين والمحافظين سيكون عظيما أيضا.فلا حاجة من رواد الإصلاح لفتح جبهات مواجهة جانبية قد تضر بالمراكز الدينية والثقافية نفسها وتقوض هيبتها ومكانتها المقدسة.
لقد جعل الكثير من رواد الإصلاح والتجديد من إتباعهم وطلابهم عقولا باحثة، مستقلة، تقرأ وتنظّر إلى الواقع فتحدد الرؤية السليمة وتجعل من العبارات المسموعة والمقروءة حركة عمل نشطة ، فتتوسع أفكارها في دائرة تشمل المجتمع بأكمله لا مركز تخرجها العلمي أو الثقافي فقط .فلا تعرف العزلة عن المجتمع ولا تعرف مجالا فكريا متكبرا متربعا على عرش من القداسة مستبد.
فسيرة رواد الإصلاح من العلماء المتنورين تفيد بأنهم كانوا يجرون تلاميذهم جرا إلى المجتمع والتأثير فيه، لأن المجتمع ليس تيارا جماهيريا يراد به وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية من اجل فوز حزبي أو طائفي أو شخصي ضيق أناني مغرور، إنما المجتمع هو الهدف الذي يستوجب العمل الجاد والمخلص من اجل تعليمه وتثقيفه حتى يصل إلى مدارج الكمال فيقرر بعد ذلك لنفسه ما يريده ويختار.
فليست المنابر وحدها محلا للقاء بالناس فقط، وليست الساحات ذات الوفرة المالية والاقتصادية هي الهدف الأساس كما هو الحال الراهن حيث نجد أن النشاط الثقافي والعلمي ظل غائبا عن ساحات وبلدان إسلامية فقيرة، ونجده مكثفا ومتضخما الى حد التخمة في بلاد الوفرة المالية والنماء الاقتصادي بلا خطة وحساب ولا طائل .
فلماذا تغيب الحوزات والمراكز الدينية عن أفغانستان وبنغلاديش وبلاد أفريقيا بينما ينتشر المبشرون المسيحيون في أفقر البلاد لكونها لا تمثل ساحات عمل إسلامي ثقافي على قائمة الاهتمامات في المراكز الدينية والحوزات؟.
لماذا نجد في بلد مثل البحرين يصل فيها عدد علماء الدين والخطباء إلى مئات العلماء والخطباء ولا يصل مستوى الوعي الثقافي إلى درجة تتناسب وعدد العلماء والخطباء. فبلادنا تتميز بكثافة في عدد الخطباء وعلماء الدين لكن نتاجهم الثقافي شفاهي بينهم وقليل منه يرجع إلى حاجة الناس.
إذا جعلت ( الجماهير) آلة لتحقيق هدف سياسي وحيد لفئة علماء الدين بدون توعية ثقافية، فإن الصناعة هنا ستكون لهمج رعاع لا لشعب يصل في نهاية المطاف إلى طاقة مختارة قادرة على التمييز بنفسها لحقائق الأمور وأوهامها. فالحاجة هنا أساسية لصناعة شعب مثقف لا تباين فيه بين المثقف في كل وجه، سواء أكان المثقف عالما في الطبيعيات والانسانيات والرياضيات أو عالم في الدين، فتكون الثقافة عامة والعلم خاص.
لقد أدرك رواد الإصلاح في العصر الحديث المسافة الكبيرة التي تباعد بين النخب المثقفة وبين علماء الدين وبين المجتمع نتيجة تفرغ الجماعات السياسية أو المراكز والحوزات الدينية لصناعة التيار التابع المقود وليس الشعب الواعي القائد. فكانت رؤيتهم بأن هذا التباعد والإخفاق في وعي الهدف قد تسبب عنه جهل كل طرف بالآخر وعداء غير مبرر في أحيان كثيرة وطلاق وتباين، لأن الاستعمار حينما وفد إلى بلاد المسلمين استهدف أولا هذه النخبة وصنع منها نموذجا لقيادة الدولة بمعزل عن المؤسسات والمراكز الدينية والثقافية الاصيلة . من هنا ظلت هذه النخبة محل سخط من قبل بعض المحافظين والمتزمتين الجامدين على القديم وأصحاب الرؤى القصيرة في مداها. فلا مناص من الالتفات إلى هذه النخب واحترام عقلها ووجدانها، ورعايتها والدخول في أوساطها ومشاركتها في صنع القرار الوطني والثقافي الديني.
ويقول عبده في وصف عزلته قبل مجيء الأفغاني:
قال الأفغاني لي: " إلى متى هذه العزلة، وما الفائدة في العلم وتحصيله إذا لم يكن لك نور تهتدي به ويهتدي به الناس؟إن من المكروه أن تستأثر بالفائدة دون أهل ملتك، وان من لم ينفع بما يعلم فقد أضاع أهم ثمرة تقصد من غراس المعرفة، فعليك أن تخالط الناس وتعظهم وترشدهم إلى الطريق القويمة والسنة الصالحة. فذكرت له اشمئزازي من الناس وزهادتي في معاشرتهم وثقلهم على نفسي إذا لقيتهم، وبعدهم عن الحق ونفرتهم منه إذا عرض عليهم، فقال لي: هذه من أقوى الدواعي إلى ما جئتك عليه، فلوا كانوا جميعهم هداة مهديين لما كانوا في حاجة إليك. ثم اخذ يصحبني في مجالس العامة ويفتح الكلام في الشؤون المختلفة ويوجه إلي الخطاب لأتكلم فيتكلم الحاضرون فأجيبهم وانطلق في القول على وجل في أول الأمر، وما أزال بي حتى وجدت عند نفسي شيئا من الألفة مع الناس والاستئناس بمكالمتهم".
ان تطوير المؤسسة الدينية بجميع مراكزها وفروعها بحاجة الى صناعة البدائل التعليمية والثقافية . كالاهتمام بجانب التوثيق والبحث العلمي على مناهج حديثة . فالغرب اليوم يتميز على المسلمين بمناهجه المتطورة التي اعتمدت البحث والاستقراء والتوثيق والدراسة وسائل لتنظيم المجتمع وتمدنه ، فذلك كان من دواعي اصرار رواد الاصلاح والتجديد على جمع التراث الاسلامي واعادة كتابته بلغة عصرية تعتمد منهج البحث والاستقراء والملاحظة والتجربة وسيلة حضارية ، وتؤسس لمناهج ثقافية وتعليمية خاصة تعتمد على القديم وتدرس الجديد وتبدع الحديث.
فكم من مركز او حوزة او جمعية دينية استطاعت ان تعالج ظاهرة مجتمعية في اطار بحث او استقراء او دراسة ميدانية حديثة ؟. وكم من عالم دين او مثقف استطاع ان يقود مجتمعه او ابناء مدينته او قريته او منطقته في اطار منهج حديث ملم بكافة وجود وانحاء الظاهرة المراد علاجها او تطويرها او تجديدها او حتى تأسيسها ؟.
ففي العراق انتقد الشيخ المظفر مناهج الدراسات الدينية ووسائلها في النجف، وكانت رؤيته لمدى تأثير النجف في المجتمع واضحة تماما، فصنع البدائل وقاد حركة الاصلاح والتجديد بتأسيس "كلية منتدى النشر"، فاعد منهجا العلمي والثقافي، وألف على أساسه بعض الكتب التعليمية، ثم طور هذا النشاط بتأسيس " كلية الفقه" التي اعترف بها رسميا من قبل الدولة ثم ضمت إلى جامعة بغداد. وأما العلوم التي كانت تدرس في الكلية فهي : الفقه ألإمامي والفقه المقارن وأصول الفقه والتفسير وأصوله والحديث وأصوله (الدراية) والتربية وعلم لنفس والأدب وتاريخه وعلم الاجتماع والتاريخ الإسلامي والفلسفة الإسلامية والفلسفة الحديثة والمنطق والتاريخ الحديث وأصول التدريس والنحو والصرف وإحدى اللغات الأجنبية .ويتضح من خلال قائمة المواد التي كانت تدرس في كلية الفقه أن حوالي نصفها يعد من العلوم الحديثة التي لم تكن مدرجة ضمن المنهاج التقليدي للحوزة.
فهذه التجارب برغم قصر عمرها، لكنها أعطتنا أمثلة على التغلب على الظروف والتحديات التي تستهدف الثقافة والتعليم الديني وتحل إشكالية الفصل بين الثقافة والعلوم الدينية وعناصر كل منهما، كما تحل إشكالية الانفصال بين المراكز الدينية والمجتمع وتخبط كل منهما في علاج الظواهر السلبية الناشئة عند الآخر.
|