قالوا

 يعيش الجميع اليوم عصر الثورة المعلوماتية التي تنتشر فيها الأفكار و المعلومات بسرعة و سهولة من و إلى أي بقعة من بقاع العالم، و لكن ما فائدة هذا الكم الهائل من المعلومات في ظل هيمنة رأي واحد و فلسفة واحدة على نوعية هذه المعلومات، و أعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تعكس بمثل هذه الأفعال حقيقة العالم الذي تمثله و تريد في نفس الوقت.

الأستاذ علي السكري
من الذي صام؟ الدرازيون أم النعيميون؟   |    في ذمة الله الشَّابة زهراء عبدالله ميرزا صالح   |   ذمة الله تعالى الحاجة جميلة حسن عبدالله    |   على السرير الأبيض الحاج خليل إبراهيم البزاز أبو منير    |   برنامج مأتم الجنوبي في ذكرى ولادة السيدة الزهراء    |   في ذمة الله حرم الحاج عبدالله سلمان العفو (أم ياسر)   |    في ذمة الله الطفلة زهراء جابر جاسم عباس   |   نبارك للأخ الطالب محمد حسن علي ثابت حصوله على الماجستير في إدارة الأعمال    |   رُزِقَ الأخ عبدالله علي آل رحمة || كوثر || 12/12/2021   |   دورة تغسيل الموتى    |   
 
 الصفحة الرئيسية
 نبذة تاريخية
 أنشطة وفعاليات
 مقالات
 تعازي
 شخصيات
 أخبار الأهالي
 إعلانات
 النعيم الرياضي
 تغطيات صحفية
 ملف خاص
 خدمات الشبكة
 المكتبة الصوتية
 معرض الصور
 البث المباشر
 التقويم الشهري
 أرسل خبراً
 اتصل بنا
 
تغطيات صحفية
 
تميّز الإسلامُ بالنظرة الإنسانيّة الشّاملة في علاقته مع الحضارات الأخرى
كريم المحروس...صحيفة الوقت - 2008/07/25 - [الزيارات : 2896]

 الوقت
صحيفة الوقت البحرينية - يومية سياسية مستقلة
العدد 886 الجمعة 21 رجب 1429 هـ - 25 يوليو 2008

»إشراقات«
تحوّل العلوم والمعارف..
تميّز الإسلامُ بالنظرة الإنسانيّة الشّاملة في علاقته مع الحضارات الأخرى

كريم المحروس:


وفّر الإسلام، بوصفه نصّاً دينياً، للعنصر البشري طاقة روحية ووجدانية جبّارة جعلت منه قطباً فاعلاً في تلقي الكثير من العلوم الفقهية والإنسانية والطبيعية والرياضية، وغيرها من المواد والأدوات العلمية الممهّدة لقيام حضارة قادرة على الامتداد والتفاعل مع المحيط الثقافي أو العلمي للحضارات البشرية الأخرى، القديم منها والحديث من دون استنساخها أو التأثر سلبا بشطحاتها، برغم الاضطراب السّياسي والاجتماعي والتمييز الطائفي والطبقي والعنصري الذي مارسه بعض الخلفاء والحكام والسلاطين بمعونة طبقةٍ من رجال الدين. فالإسلام دين توحيد ومشروع إنساني متكامل غطّى أبعاد الحياة كافة، وجعل من بين قيمه اهتماماً عظيماً بوظيفة كسب العلم وتعليمه، وأثار برسله ورسالاته العقل البشري الذي به عُرف الإله وسننه المُسخّرة لمصلحة الإنسان المريد المختار. وقد أكّد القرآن الكريم - الذي يمثل في نفسه معجزة إلهية عظيمة شملت إعجازا علميا أيضا - على جعل العلم أساساً لسبر أغوار هذا الكون العظيم والتدبّر في نظامه وكتلته وزمنه وفي حكمة خلقه، وآية ذلك أن كلمة ''علم'' وردت في القران الكريم 850 مرة، وأن أول أمر استخدم في القران هو كلمة ''أقرأ''، وأن أول أداة ذُكرت في كتاب الله هي ''القلم''.
والإسلام هو الذي أمر معتنقيه باتباع المنهج العلمي في التعلم والتعليم والبحث والدراسة التحقيق. والقرآن هو الكتاب الذي أطلع المسلمين على السنن الكونية في المجال الرياضي والإنساني والطبيعي. كل ذلك دفع بالكثير من رواد ومنتسبي التعليم الديني للنظر المنتِج واستقراء المحيط الثقافي والعلمي الإنساني، فشرعوا في البحث والتحقيق فيه والنقل عنه. وكانت الانطلاقة الأولى عظيمة لولا تدخّل النظام السياسي في توجيه تلك البواعث والمحفزات حتى أضحت مرتبطة ارتباطاً عضوياً بمصيره.
الحوافز الدّينيّة للبحث العلمي
وكان وراء البحث والتحقيق العلمي جملة من البواعث والحوافز، منها:
1- أن هناك حاجات دينية وإنسانية تتطلب التطوير والإبداع عرّفها النصّ الديني، ودفعت باتجاه تذليل الصّعاب لتسهيل أمر تداولها وتيسير استعمالاتها بين عامة الناس، من قبيل الحاجة إلى تنظيم أمور بعض العبادات والأحكام، من نحو: الصّلاة والصّيام ومواقيتهما، وتحديد بدايات الأشهر العربية وفقاً لحركة القمر، وفيما يخصّ أمور الاقتصاد وتنظيم علاقات السوق، وأمر العلاج الطبي وتنظيمه، ومسائل السفر واقتحام البحار والمحيطات ورسم خرائطها وطرقها وممراتها، وغير ذلك من الحاجات البشرية. من هنا اتجه منهج التفكير والتعليم إلى النظر في هذه الحاجات وتأسيس الأرضية المناسبة والمشجّعة على الإبداع والاستثمار في المجالات العلمية، الطبيعية منها والرياضية والإنسانية.
2- إنّ العلوم هي من لوازم التطوّر والإبداع الفكري الحضاري، وكلّما توافرت سُبل العيش الكريم والإمكانات المتجددة الاقتصادية والاجتماعية؛ كان ذلك باعثاً ومحفّزاً على تلقي العلوم والتوسع في إثرائها بالجديد من المعارف والقيم.
وكان استقرار النظام الاجتماعي النسبي آنذاك وانشغال السلطات عنه في بعض ولايات البلاد الإسلامية؛ خيرَ مساهمٍ في اندماج الكثير من أنواع العلوم الوافدة على أقوام وأجناس وأعراق جديدة انضمّت واختلطت بالمسلمين بعد الفتوحات الإسلامية، كالفارسية واليونانية والقبطية والهندية، الأمر الذي ساهم أيضاً في انتشار اللغة العربية بين هذه الأقوام والأجناس والأعراق باعتبارها لغة حاضنة وأساسية لتلقي ونشر العلم. وبما أن هذه الأقوام والأجناس والأعراق وجدت في الدين الإسلامي انفتاحاً على ما كانت تتميّز به من ثقافة سابقة؛ فقد اغترفت من الثقافة الإسلامية وتبادلت معها معارفها وعلومها بلا حساسية أو أنانية. ومع لحظة اعتناق هذه الأقوام والأجناس وأصحاب الأديان الأخرى للدين الإسلامي فقد حلّت بينها ثقافة حضارية مضافة إلى ثقافاتها المحلية. وانسحب الأمر أيضا على القوانين المحلية في بعض الإمبراطوريات المجاورة كالإمبراطورية البيزنطية مثلا ''وبخاصة القوانين الرومانية التي جمعها الإمبراطور البيزنطي جستينان (527-565م) وعرفت باسمه (Codex justinianus). كما حلّ الشرع الإسلامي محل قوانين الدولة الفارسية، والقانون القوطي في إسبانيا ( ''(Lex Gothorum (عبدالمنعم ماجد، ''تاريخ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى''، ص21).
3- توافُرُ مؤثرات وآليات تيسير لنقل وتداول علوم الحضارات الأخرى تمثلت في المترجم السرياني والفارسي المتواجدين على حدود بلاد الحضارات وبلاد الثقافات القديمة كالشام والعراق التي كانت تمثل مراكز اتصال بأوروبا وبلاد فارس، ''وكان جميع الناقلين من السريان، لأن اللغة السريانية كانت في ذلك الحين لغة الشام والعراق'' (المصدر السابق، ص115). واختلفت مصلحة المترجمين السريان من خلال تصدّيهم لمشروع الترجمة، فمن المؤرخين من رأى أن السريان كانت لهم ثقافتهم الخاصة ورغبوا في الحفاظ عليها، وذلك عبر التخصّص في مجالات ترجمة الكتب العلمية إلى العربية. وقيل أيضا أن السبب يرجع إلى حاجة اقتصادية جعلت السريان يتخذون من الترجمة مكسباً مالياً ومغنما تجاريا بعد أن شعروا بوجود تطلع وحاجة إسلامية إلى مشروع الترجمة ونقل العلوم عن اليونان. بينما راح البعض الآخر من الباحثين إلى القول بأن السبب يكمن في مشروع الدفاع عن نصرانية السريان أمام الوثنية الهلينية التي بدأت تتوسع في فرقها الدينية المختلفة، وظهر ذلك من خلال تأكيدهم على ترجمة الكتب الفلسفية على وجه التحديد.
وأياً كان الأمر، فالترجمة لم تقتصر على السريان فقط، بل أن الفرس أيضا ترجموا كثيرا من الكتب الفارسية والهندية إلى العربية ''ولعل أول من ترجم من الفارسية هو عبدالله بن المقفع (140/757م) وهو فارسي، ترجم من الفارسية القديمة كتبا عديدة، كما ترجم كتبا يونانية ''، (م.س، ص149).
بواعث التطور العلمي
انفتح التعليم الديني على الثقافات والعلوم القديمة الإغريقية والفارسية والهندية، ونقلها ودرسها وحقّق فيها، ووقف منها موقفاً مستقلا ومنصفا وواضحا وصريحا في أغلب الأحيان عند بعض المذاهب الإسلامية، فأخذ منها ما رآه بقاعدة علمية سليمة لا تتعارض أو تتناقص مع الإسلام، وما كان يحثّ عليه من عقائد وقيم. ولم يكن ذلك بالأمر السهل نسبة لقوى التأثير في تلك العلوم والثقافات، ولذلك جاء الانفتاح بطيئاً ومدروسا بعناية فائقة في بعضه. ولم تكن آثار العلوم وتطور مدنيتها ظهرت في بدايات القرن الهجري الأول (القرن السابع الميلادي)، لأن القرن الأول كان قرن التمكن من نصوص الشريعة الإسلامية ومصادرها، وقرن صناعة الثقافة على أسس من مصادر التشريع برغم الاختلال الكبير في المفاهيم والقيم التي ولّدها انقلاب الخلافة. وقد تبع مرحلة التمكن من الشريعة وثقافتها مرحلة الفتوحات الإسلامية التي وسّعت من حركة التماس في الفكر وجدل الثقافة والعلوم. ونقد بعض المفكرين حركة الفتوحات هذه لأنها كانت حركة سياسية استهدفت تعزيز مكاسب الانقلاب السّياسي الأول في الإسلام بلا حساب ولا استعداد للأثر السلبي الذي ستعكسه ثقافات وعلوم المجتمعات الجديدة على ثقافة وعلوم المسلمين الأوائل، ولمّا يأخذ الإيمان طريقه في نفوس أهل الجزيرة العربية. ولولا الجهود العظيمة التي بذلها أهل البيت (عليهم السلام) في توجيه نظم الحروب تلك، فضلا عن دفاعهم دون الشريعة أمام الثقافات والأفكار الوافدة؛ لكانت الجزيرة العربية مسرحا للفساد والاضطراب السياسي والاجتماعي والديني. فالفلسفة اليونانية - على سبيل المثال - التي راجت بين المسلمين وكانت مهيمنة بقوة على الفكر المسيحي ومن قبله اليهودي، وكانت أيضا مسيطرة على مفاصلهما وقواهما الاجتماعية والسياسية والثقافية - مست العقل المسلم وحملته فوق طاقته في ظرف تعلقت فيه الديانتان بالمسألة العاطفية والوجدانية بغير اتزان، ولكنها كانت ظلت خاضعة لهيمنة النصّ الإسلامي عقب ترجمتها، وتعامل بعض علماء المسلمين معها بحصافة، فعجزت عن صهر الإسلام وإذابته في بوتقتها بين منظومتهم الاجتماعية برغم عُقد السلطنة وخلافاتها. وقد وضع التعليم الديني الفلسفة بين معاييره الشرعية والعقلية وشرحها علماؤه ورجاله في إطار عقائدي وقيم ومفاهيم أساسية حتى قدر بعضهم على تخطي موجتها العقلية العاتية. وسخّر بعضهم الآخر فصولها لخدمة ما يملكون من منهج تعليمي علمي نظري وعملي.
اجتياح الفلسفة بين الغزالي وابن عربي
ومع كلّ تلك الاحتياطات المنهجية الصارمة وموانع الدفاع العقلي والتحصين الديني؛ استطاعت الفلسفة بشكلها المنحرف في مباحث التوحيد والوجود أن تلقي بظلالها على بعض مناطق التخلف الفكري والعقائدي الذي اجتاح بعض الفرق المتصوفة في نهاية القرن الثالث الهجري، لكن الفلسفة أصبحت محلّ جدل علمي عنيف بين اتجاهي التشيع والخلافة، فهما بين مكفّر لها وناقد، ومؤيّد لها ومتبنّ ومجزئ لها. ولم يحسم هذا الجدل الخطير ولم ينتج بديلا علميا مقبولا؛ لأن المكفّرين والناقدين إمّا كانوا من اللاجئين إلى التصوف المجرد، كالشيخ الغزالي الذي فرّ من الفلسفة من بعد عمر علمي طويل واحتمى بالتصوف، أو من الساقطين في وحل التصوف الفلسفي، ومثالهم الكبير ابن عربي والمتصوفة في أسبانيا وشمال أفريقيا وبلاد فارس، أو ممن اكتفى بما كان عنده من إرث علمي مخترق فنأى بنفسه عن وظيفة الإصلاح والتصحيح، كما هي الحال بالنسبة للكثير من علماء الكلام الذين غزتهم الفلسفة بمباحثها وألفاظها فلم يجرّدوا عقولهم وشريعتهم عن طغيانها. وليس تأكيد الإسلام على أهمية التعليم والعلم وضرورتهما والتفاعل مع المحيط العلمي والنقل والاقتباس منه؛ مؤسساً على غير ضوابط وقواعد، فلم تكن الشريعة لتصمد أمام نتاج الحضارات الإغريقية والهندية والفارسية، فهذا النتاج العلمي كان قوي التأثير على بيئة علمية منطلقة عن إرث نشأ في صحارى الجزيرة العربية البدوية وامتد إلى شعوب حضرية وكان محمّلاً بالكثير من الدواهي المدسوسة والموضوعة والمختلقة منذ عهد صحابة رعيلها المؤسس وانقلابه الأول. فهذه الحضارات لها من المؤثرات ما جعلها تمتلك كل آلات الاحتواء ومؤهلات الاختراق.
دخل المسلمون مرحلة النقل والاقتباس عن الحضارات والثقافات الأخرى بعزيمة وإرادة منهجية، لكنها غير تامة الانضباط، لأن هذا الدخول كان مقيداً بطائفية مجتمع مذهبي مؤيد من قبل سلطان أو حاكم الدولة، من دون أن نغفل هنا أو نسجّل مساهمة دور بعض رجال العلم كأفراد مستقلين، ما يؤكد على أن وعي المراد والهدف من ترجمة المؤلفات الوافدة لم يكن دائما على منهج علمي ديني خالص واضح وسليم. وكان الجميع مدركا لغرض تلك الترجمات، كما كان مدركا لسبل النقل والاقتباس وطريقهما وأساليبهما وحدودهما أيضا. ''فقد بدأوا أول ما بدأوا بكتب العلم العملية لا بكتب الفلسفة النظرية. فبدأوا بنقل كتب الرياضيات والفلك والطب. ولما كثرت لديهم كتب العلوم، اتجهوا صوب كتب الفلسفة النظرية ليتموا أداء رسالتهم!''، (عمر فروخ، ''تاريخ العلوم عند العرب''، ص114). وممّا يؤكد أيضا على وعي بعض رجال العلم من المسلمين وإدراكهم للمراد الخطر والمستهدف من الترجمة؛ أن نتائج الترجمة توضّح سلامة مشروع ترجمة العلوم العملية التي استفاد منها المسلمون أيما استفادة، بينما اختُلف في الأمر بعد توسّع مشاريع الترجمة الموجّهة التي قصدت تغطية المؤلفات المنبوذة في العلوم النظرية، وهي مؤلفات كانت في مرحلة ما وبالا على عقائد المسيحيين واليهود معا، واستغلتها بعض الفرق الإسلامية في تأصيل وبناء عقائدها.
التمييز بين العلوم النظرية والعلمية
وهكذا تميّز المسلمون بالكثير من العلوم العملية وبعض العلوم النظرية المختارة، فصقلت أذهانهم حتى تفاخروا بعددٍ هائل من مدارسها وخريجيها من العلماء والفقهاء والشعراء، وتعمّقوا في التحقيق العقلي والنظري والعملي، ودرسوا العلوم النظرية بعد ذلك كالفلسفة بأبعادها وألوانها المختلفة، حيث كانت الفلسفة آنذاك تضم أكثر العلوم ولم تكن حينها منفصلة أو مستقلة عنها، وتوصّلوا فيها إلى ما لم يتوصل إليه فلاسفة أوروبا وعلماؤهم وخطؤوا الكثير من مبانيهم النظرية الفلسفية ونقدوا منطقهم ونتائجه، ووجدوا أن ''الحقيقة يجب أن تكون معقودة بمشاهدة الحوادث ذاتها، ومن هنا كان شعارهم في أبحاثهم الأسلوب التجريبي والدستور العملي الحسي. وكانوا يعتبرون الهندسة والعلوم الرياضية أدوات ومعدات لعلم المنطق. ويلاحظ المطلع على كتبهم العديدة في الميكانيكا والايدروستاتيك (علم موازنة السوائل وضغطها على جدران أوعيتها) ونظريات الضوء والأبصار - بأنهم قد اهتدوا إلى حلول مسائلهم من طريق التجربة والنظر بواسطة الآلات. وهذا ما قاد العرب لأن يكونوا أول الواضعين لعلم الكيمياء والمكتشفين لبضع آلات للتقطير والتصعيد والإسالة (إسالة الجوامد) والتصفية وغيره. وهذا بعينه أيضا الذي جعلهم يستعملون في أبحاثهم الفلكية الآلات المدرجة والسطوح المعلمة والإسطرلابان (آلات قياس أبعاد الكواكب) وهو أيضا الذي بعثهم لاستخدام الميزان في العلوم الكيماوية، وقد كانوا على ثقة تامة في نظرياتهم. وهو أيضا الذي أرشدهم لعمل جداول عن الأوزان النوعية للأجسام، والأزياج الفلكية (وهي جداول تعرف منها حركات الكواكب) مثل التي كانت في بغداد وقرطبة وسمرقند، وهو أيضا الذي أوجب لهم هذا الترقي الباهر في الهندسة وحساب المثلثات، وهو الذي همّ بهم لاكتشاف علم الجبر ودعاهم لاستعمال الأرقام الهندية''، (دائرة معارف القرن العشرين، ص608). ويصل الأمر ببعض الباحثين المنصفين إلى القول بأن أوروبا مدينة في عصر نهضتها لعلوم المسلمين التي احتفظت ودوّنت وأثرت الإرث والتراث العلمي الأوروبي المقتبس. فالأستاذ (بريفولت) يقول: إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل يدين هذا العلم إلى الثقافة العربية بأكثر من هذا. إنه مدين لها بوجود نفسه. '' فليسأل الشرقيون علماء ومربي الغرب الأوروبيين عن مصدر مدنيتهم الحاضرة، وحياتهم الجديدة، ليعلموا من أي مدنية ومملكة جلبوا هذه الأحكام، والأفكار العجيبة التي حيرت العقول وأعجزت الأفكار والإفهام عن كنه معرفتها. ويذكر المؤرخ الفرنسي (موستيل دوكولانتر) في الفصل الثاني من كتابه (التمدن القديم): لم يتدخل المسيح (عليه السلام) بأي وجه من الوجوه في أمور القضاء والتملك والإرث وما يخص المدنية من الأحكام ليعلم العلم بأنها ابتداء المدنية والحياة الجديدة والتربية الصحيحة''. ويقول المؤرخ ''غوستاف لوبون'': لقد اثر التمدن الإسلامي على العالم تأثيرا محيرا للعقول. ونفوذ الأخلاق الإسلامية وتربيتها قد أدخلت الأقوام الأوروبية الوحشية التي كانت تقلق راحة السلطنة الروحية في طريق التمدن. ولقد فتحت أفكار المسلمين الجبابرة أبواب العلوم والفنون والفلسفة التي كان الأوروبيون في جهل عنها لهم، وكان المسلمون أساتذتنا طيلة ستمائة سنة''، (الإيمان والعلم الحديث، ص77-78).
خصال النظرة الإسلاميّة للحضارات
فالنظرة الإسلامية للحضارات كانت نظرة إنسانية شاملة، وليست محصورة في أطر ضيقة، فلم تصل علوم المسلمين إلى هذا المستوى العظيم من العطاء حتى في ظل ظروف سياسية واجتماعية وعقائدية معقدة وقاهرة في أغلب الأحيان. ويضع رموز الإصلاح انطلاقا من فكرهم الحضاري مجموعة خصال، كل واحدة منها تشكل ركنا لوجود الأمم المتحضرة وبقائها، وعمادا لبناء هيئتها الاجتماعية والتعليمية، وأساسا محكما لمدنيتها، وهي ما افتقده الغرب خلال عملية تعلم وتعليم ما اقتبسوه من المسلمين بواسطة علمائهم ومؤسساتهم التعليمية. ومن بين تلك الخصال: النظرة الإنسانية الشاملة، والتصديق بأن الإنسان ملك أرضي وهو أشرف المخلوقات. والجزم بأن الإنسان إنما ورد هذه الحياة الدنيا لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي والانتقال به من دار ضيقة الساحات كثيرة المكروهات، جديرة بأن تسمى ''بيت الأحزان وقرار الآلام'' إلى دار فسيحة الساحات، خالية من الملمات، لا تنقضي سعادتها، ولا تنتهي مدتها. ولا يغفل العقل عما يتبع هذه العقائد ''الخصال'' الثلاث من الآثار الجليلة في الاجتماع البشري، والمنافع الجمة في المدنية الصحيحة، وكما يعود منها بالإصلاح على روابط الأمم، وما لكل واحدة من الدخل في بقاء النوع والميل بأفراده لا يعيش كل منهم مع الآخر بالمسالمة والموادعة، والأخذ بهمم الأمم للصعود في مراقي الكمال النفسي والعقلي''، (محمد عبده، ''الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني''، ص135).
هذه الخصال وردت عن علماء دين مصلحين تخرّجوا عن مؤسسة تعليمية دينية، وأدركوا حقائق العلوم وسبل تعلمها والاقتباس عنها. وهذه الخصال لم تكن مرافقة لعلومهم لولا اعتمادهم أسسا من الدين وفيضا من تعالم الشريعة وفرتها لهم المؤسسة التعليمية الدينية وفصلتها بأجل صور. وهو ما افتقدته أوروبا خلال عملية النقل والاقتباس للعلوم الإسلامية ظناً منها أن الفصل بين الدين وتلك العلوم ومن ثم إضافة تلك العلوم إلى فكر أوروبا أمرٌ ممكن من حيث التفاعل الحضاري والنمو المدني. وربما كانت أوروبا محقة في جانب علم الفلسفة لأنه من نتاجها أصلا، فقد استنسختها أوروبا عن المسلمين بعد أن حفظها المسلمون في مؤلفاتهم وناقشوها وعالجوها فكانت معالجاتهم مصيبة في أحيان قليلة نسبة إلى ما تركته الفلسفة اليونانية من تأثير سلبي على الثقافة الإسلامية ومناهج العلم في المؤسسة التعليمية الدينية، ثم ذاع الأوربيون هذه الفلسفة وأدرجوها مؤسستهم التعليمية وبنوا عليها حضارتهم.


* باحث بحريني مقيم في لندن

*رابط المقال : http://www.alwaqt.com/art.php?aid=123883

© 2006 صحيفة الوقت، جميع الحقوق محفوظة.
www.alwaqt.com

طباعة : نشر:
 
يرجى كتابة التعليق هنا
الاسم
المدينة
التعليق
من
رمز التأكيد Security Image
 
جميع الحقوق محفوظة لشبكة النعيم الثقافية © 2003 - 2024م