مؤلفات الأقدمين في منهج الحوزة الدينية.. قراءة وتحليل «1»
كريم المحروس:
الوقت- العدد 226 - الأربعاء 12 رمضان 1427 هـ - 4 أكتوبر 2006
على مدى حلقات بحثية متسلسلة، وفي شهر رمضان المبارك، يكتب الباحث البحريني كريم المحروس تحليلاته العلمية لمؤلفات الأقدمين في منهج الحوزة العلمية، والتي يرى أنها باتت في حاجة ملحة وضرورية للمراجعة وإعادة النظر. وفي هذه الحلقات يقف المحروس عند جوانب مختلفة من تكوينات ومكوّنات هذه المؤلفات، ويُحلّل أهم أبعاد القصور أو النص التي تعتريها سواء في المدرسة الشيعية أو في مدرسة الخلافة، بحسب تعبيره. وفيما يأتي الحلقة الأولى من هذه السلسلة.
لا خلاف في أهمية المؤلفات المعتمدة في المؤسسة التعليمية الدينية ودورها في ناحية حفظ نصوص الشريعة من الإندراس، فهي تعد مادة مصادر التشريع بوجهيها التفصيلي والإجمالي ووظائفها العملية المهمة في تدوين التعليقات والحواشي والتفسيرات والإيضاحات. والرأي هنا في مسائل أخرى غير ذات النص، كما الرأي في طرق عرض هذه المؤلفات لمادتها ومنهجيتها لأن المؤلفات المقررة المتقدمة في المؤسسة التعليمية الدينية قد كُتبت من قِبل مؤلفيها، إما لشرح في الشريعة بعقائدها وفقهها وبقية علومها وإما على سبيل جمع الحديث والرواية وما أشبه، ولم تكن هذه المؤلفات مكتوبة بقصد تبويب مادة التدريس وتنظيمها، فليست تضمّ منهجا تعليميا مبنيا على استراتيجية أو هدف في إطار تنمية شاملة متدرجة الأبعاد بحيث تتكامل مع بقية المؤلفات المقررة في منهج الدراسة أو تنسجم مع مرحلية دراسية آخذة بعين الاعتبار الناحية العمرية ومستوى الاستيعاب.
وظائف التأليف ففي مرحلة تاريخية علمية كانت جهود التأليف منصبة على جمع الحديث ثم تطورت وظائفها إلى تقعيد مصادر التشريع من خلال تطور مفهوم مبدأ الاجتهاد. ولم يكن من وظائف هاتين المرحلتين إعداد أو بناء مؤسسة تعليمية دينية تضم تلك المؤلفات أو تهدف إلى صناعة طبقة تبليغ وإرشاد عام أو صناعة مراجع ومجتهدين، لأن مثل هذه الوظائف كانت حرة غير مقيدة بأي نظام أو وسيلة.
من هنا جاءت تلك المؤلفات بغرض حفظ النص في الدرجة الأولى، ثم تقعيد مصادر التشريع تمهيدا لترسخ مبدأ الاجتهاد في الدرجة الثانية. وأما المرحلة المتقدمة التي أوجبتها المرحلتان السابقتان فهي تهيئة الظروف في شكل علمي مركزي تتداول فيه المؤلفات وتحفظ متونها، فتمثلت هيئة أو جهة أو مدرسة أو مؤسسة تعليمية تعتمد مؤلفات الأقدمين بما يصل في نهاية المطاف إلى تسهيل الأمر للرجوع إلى مبانيها ودراستها للتهيؤ لمرحلة الاجتهاد.
يُضاف إلى ذلك أن بعض هذه المؤلفات جمدت على مضامين ومبان لا رعاية فيها للمتغيرات على صعيد الحياة العامة ولا حساب فيها لتطور العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية وعلوم الآلة وتفاعلاتها، ولا تأكيد فيها على وظائف البحث والتحقيق. وهذه من العوامل الأساسية في جمود المؤسسة التعليمية الدينية وتأخّرها عن تبني المنهج العلمي الحيوي الذي يواكب الحياة العلمية وتطورها. فمن خصائص المنهج الحديث نبذ العزلة لأن فيها انقطاعا عن نتاج التطور الاجتماعي والثقافي والعلمي.
ففي المنهج القديم ‘’ليس هناك اهتمام بالتحديث والمشكلات العالقة والقضايا الحالية والأمور الفعلية التي تواجه الإنسان في الحياة، وهناك قلة في الارتباط بالحياة العلمية، فمع العمق العلمي في الحوزات والمراكز العلمية، لكن ذلك مقتصرا على العلوم الدينية من دون غيرها من العلوم الطبيعية أو الإنسانية. وإن كان هناك تطرّق لبعض هذه العلوم كالفلك والطب فهو ضعيف جدا، مع ضحالة في المعلومات وسطحيتها، وتمدّد المادة العلمية إلى أكثر من مدتها الزمنية المفترضة، كأن تدرس المادة العلمية في سنة كاملة بينما هي لا تستحق أكثر من ستة شهور’’ [1].
حفظ العلم أولاً ويبقى أن مؤلفات الموضوعات المقرّرة في المراحل الدراسية، خصوصا في مجال الفقه والأصول التي تعتبر محور المراحل والدروس والغاية التي يُراد من ورائها الوصول إلى مستوى الاجتهاد والاستنباط؛ هي مؤلفات لم يقصد مؤلفوها إعدادها مواد تدريسية تنتقل بطلابها من مرحلة إلى أخرى، أو من مستوى إلى آخر، أو من فرع إلى آخر، بل هي مؤلفات تعدّ امتداداً لمسيرة التأليف التي أقيمت أثناء عهد التشريع وبدأت بالأصول الأربعمئة عند اتجاه التشيع والصحاح والمسانيد عند اتجاه الخلافة، وهي مما جادت به عقول كبار فقهاء ومحدثي تلك الفترات التاريخية التي تميّزت بلون خاص في التأليف قوامه الاختصار الشديد في العبارات وتعقيد في الألفاظ والمصطلحات لا يدرك مقاصدها وتفصيلاتها إلا مؤلفوها أو من عاصر الجو العلمي السائد في فترة التأليف تلك. وكان هدف الـتأليف حفظ العلم لا تدريسه بحكم الهجمة الشرسة والكوارث التي نالت من التراث العلمي، لذلك تُعدّ مصادر تحقيق وبحث أكثر منها مؤلفات تدريسية منهجية. إن هذه العلوم ومؤلفاتها قد أدت في عصر من العصور دورا عظيما في المجالات العلمية والفقهية وغيرها انسجاما مع طبيعة تلك العصور التعليمية، وتركت أثرا كبيرا في الوسط الاجتماعي امتدّ أثره إلى واقعنا المعاصر. فخلقت سلوكا فقهيا تربويا سديدا، كما أسهمت بشكل كبير في بلورة ألفاظ ومصطلحات علمية وفقهية سادت المجتمع آنذاك. ولكونها أيضا امتداد لتراث أهل البيت (ع) وأفكارهم، فذلك جعل منها حاجة حياتية تقود حركة المسلم وتنظمها أحسن تنظيم وتوصّلها إلى دقة في الأحكام والعقائد والأفكار في تلك المراحل الزمنية. لكنها اليوم وبالمقارنة بما وصلت إليه الحياة من تقدّم وتطوّر في المنهج والنظام والحاجات والضرورات والأفكار والأساليب وكذلك الفرز العلمي الطائفي والمدني، فضلا عن التقنية العالية التي وفرت الفرص بأشكال واسعة جدا، تجد المؤسسة التعليمية الدينية نفسها في حاجة ماسة وضرورة أيضا إلى مراجعة هذه المؤلفات وإعادة النظر فيما قصر منها وما ضعف، وما جمد منها وما ضاق، وفي منهجيتها وتنظيمها ووضوحها وسهولة عباراتها وألفاظها وتقسيمها المرحلي وضبطها اللفظي.
---------------------------------- [1] السيد محمد علي الشهرستاني. مقابلة - باحث بحريني مقيم في لندن |